الصَّمَد | في إثبات أن بيتهوفن أعظم موسيقار

مقالات - كتابة: براءة فاروق - ٢٠٢٥/٠٧/٣١
الصَّمَد | في إثبات أن بيتهوفن أعظم موسيقار
تحميل...

تقلّبت أطروحة هذا المقال في ذهني لأعوام طوال، دون أن أخط حرفًا فيها، بين الشك والمراجعة والتدقيق، ثم الشك والمراجعة والتدقيق. يرجع هذا إلى عاملين: الأول هو أنها تورط كاتبها في الصراع الشهير حول مَن يكون أعظم الموسيقيين قاطبةً. غالبًا ما تنقسم الآراء حول المثلث الشهير: يوهان سيباستيان باخ المؤسس والأب، وموتسارت الموهبة الإلهية، وبيتهوفن مُصارع القدَر، وصريعه؛ وغالبًا ما تتدخل الأذواق هنا لتوجه الآراء، بين من يميل إلى التعقيد الزخرفي الهائل عند باخ، أو البساطة الممتنعة غير الزخرفية عند موتسارت، أو التعقيد غير الزخرفي في أعمال بيتهوفن. هذا بالإضافة إلى الكثير من العوامل الأيديولوجية بطبيعة الحال، مثل الموضوعات، التي عبّر عنها كل موسيقار، من المثل العليا المسيحية-البروتستانتية عند باخ، إلى المثل الأرستقراطية عند موتسارت، إلى المثل الثورية والإنسانية عند بيتهوفن. بل تتدخل حتى الموضوعات التي لم يعبر عنها الموسيقار. قد يرى بعض النقاد والمستمعين أن وجود موضوع محدد للعمل هو في حد ذاته ما يحد من قدرة العمل التعبيرية، أي ذلك الرأي الذي يرفع الموسيقى اللا موضوعية فوق الموضوعية1؛ وغير ذلك أيضًا من عوامل، ما يجعل الأمر ككل شائكًا، بما يحتمله من خلافات في الأذواق والقيم الجمالية والخُلقية والسياسية، لا حل موضوعيًّا لها.

أما السبب الثاني لذلك التردد فهو ضرورة الإحاطة بأسرار البناء البيتهوفني. البناء عند باخ وموتسارت واضح البنية، لا أعني أنه بسيط عند الاثنين، بل أعني أنه أبسط من بيتهوفن. إن تحليل أعمال باخ وموتسارت نقديًا وفلسفيًا لا تواجهه تلك الصعوبة، التي نجدها بصدد بيتهوفن. السبب أن كلًا من باخ وموتسارت قد قدّم في الأصل بناءً بسيطًا، والفارق بينهما أن بناء باخ البسيط تحوطه الكثير من الزخارف والمنمنمات، التي توحي للسامع للوهلة الأولى، أو للوهلات الأولى، بالتعقيد، فإذا أزلنا كل هذه الزخارف نفاجأ بأن الأمر أبسط بكثير. تخيل مثلًا لوحة الموناليزا ذات الموضوع الواضح، وتخيل أننا أضفنا الكثير من الدانتيلّا والنقوش والتعاشيق في الملابس والخلفية والإطار، عندئذٍ تبدو لنا مهمة تحليل كل ذلك شاقة بلا شك. لكن تخيل أننا – على سبيل التحليل – قمنا بمحو كل هذه الإضافات الداخلة على الموضوع، كما نقشّر الثمرة، ليظهر لنا قلبها جليًا ونقيًا. هذا بالضبط ما قمتُ به في تحليلي لباخ، كما سنرى، بل إن هذا بالضبط ما قام به أعمدة الكلاسيكية من هايدن حتى بيتهوفن المبكّر (قبل تحوله الكامل إلى الرومانسية قرابة سن ٣٠)، كما سنرى أيضًا. 

بالتالي لم يكن باخ بهذا التعقيد البنائي، بل الزخرفي، وكان ذلك التكلف مستساغًا، بل ومستحبًا، عند جمهور الباروك في القرن السابع عشر والنصف الأول من القرن الثامن عشر في أوروبا. لكن الكلاسيكية جاءت لتنقض جماليات التكلف، وتستعيد التناظر الرياضي، والوضوح الهندسي، الذي نراه في تماثيل الإغريق مثلًا، وهكذا لم يعد ذلك التكلف مقبولًا بعد ذلك، ولم تقم له قائمة مرة أخرى قط. أما بيتهوفن فحالة مختلفة في هذه المقارنة. لم يهتم بيتهوفن كذلك بالزخارف، ولم يستسغها، طالما هي مطلوبة كمجرد دانتيلّا للعمل وزينة خارجية، لكنه – على عكس سلفَيه – أضاف التعقيد في الموضوع نفسه، دون زخارف، كما سيتضح لاحقًا. ما أنْ وصلتُ إلى هذه النتيجة الأخيرة حتى قدّرت أنني قد أمسكت بطرف الخيط الأساسي لموضوع هذا الطرح أخيرًا.

وعدتُ في مقال أسبق (موسيقى الشيطان) على معازف منذ عامين بتقديم مقال في إثبات كون بيتهوفن الأعظم بين الموسيقيين، وطالبني بعض القراء والمستمعين في المحاضرات بتقديمه أكثر من مرة، وسألوني بصدده، لكنني لم أكن قد عثرت على بداية الطريق بعد طيلة هذين العامين. يلاحظ القارئ المنتبه أن عنوان المقال ليس مقارنة بين بيتهوفن من جهة، وباخ وموتسارت من جهة أخرى، بل يحمل ادّعاءً أكبر، يُدخل كاتبه في مغامرة لا بأس بها، ويقارن بين بيتهوفن من ناحية، وكل الموسيقيين الكلاسيكيين من ناحية أخرى. هذا كله صحيح، ويتطلب إحاطة مرجعية بأساليب التأليف والأعمال وتاريخ الموسيقى، لا يكاد يقدر عليها أحد، فضلًا عن أن يعبر عنها في هذه المساحة المحدودة. ما المنهجية الممكنة هنا؟

إنّ أبسط الحلول هو غالبًا أفضلها، ليس لأنه بسيط، ولكن لأن خلف كل تلك التفاصيل الأسلوبية والتاريخية، وبرغم تفاوت الأذواق والقيم، تقبع معادلات محدودة هي الأساس في تقييمنا النهائي للمنجز الفني الشامل، كالخطة الهندسية لبناء شديد التركيب، التي تمكّننا من فهمه بنظرة واحدة دون أن نضطر لمسح كل غرفه وقاعاته. هذه المنهجية الممكنة بشكل عام لتحليل مادة معرفية غزيرة متنوعة. كل ما علينا أن نرصد المفارقات الأساسية، وأي موسيقار استطاع حلها، والتأليف بين متناقضاتها. في تحليلنا للبنى الهندسية، وكيفية حل المفارقات المنطقية لا نتطرق إلى مشاعرنا تجاه الأعمال، وتجاربنا الشخصية معها، ولا مواقفنا من أصحابها، ولا أذواقنا بشكل عام، بل يكون المجال الوحيد الممكن هو الحوار العقلي، والبرهان المنطقي. هذا كذلك – فيما أرى – هو الحل لتجنب الأحكام الذاتية في النقد الفني. أما التجارب الذاتية مع الأعمال الفنية فلها مجالها في السير الذاتية، وفي الخواطر، وفي الأعمال الفنية الموازية للأعمال الأصلية، وهو ليس مجالًا للإقناع، بل للاعتراف والقَصّ والإمتاع.

سنركز هنا على الجوانب البنائية دون التاريخية، يعني أننا لن نقوم بتقييم الموسيقيين طبقًا لما حققوه من تأثير في التالين عليهم، والسبب أن الأسبقية الزمنية مجرد مصادفة تاريخية. ربما جاء فنان ما في مرحلة تاريخية ظهرت فيها آلة جديدة، كالبيانو مثلًا، فصار مرجعًا في التأليف لها لمجرد أنه جاء في اللحظة المناسبة، واستغل معظم إمكاناتها، ما أضعف دور التالين عليه. مصادفة الرجل المناسب في المكان والزمان المناسبين. كما أن العوامل التاريخية، رغم تأثيرها الذي لا يكاد ينازع فيه أحد بشكل عام، مستقاة من مراجع لا يمكن أن تكون دقيقة تمامًا، أو أن نطمئن لها تمامًا. برغم ذلك قد نتوقف قليلًا عند بعض المنجزات التاريخية للموسيقيين، التي لا يمكن أن تكون مصادفة، ولا يمكن أن تكون غير دقيقة. كما سنلاحظ أننا سننحي جانبًا، وبعين نقدية، ذكر ظروف التأليف تبعًا لذلك، مثل صمم بيتهوفن، أو حداثة سن موتسارت. الخلاصة أن المقال سيستعمل مشرط المنطق الحاد لتشريح بعضٍ مِن أهم أيقونات الموسيقى الكلاسيكية، وربما هدمها.

بيتهوفن الصَّمَد أي الذي لا جوفَ له، الذي لا فراغ فيه. ما هو صمد مُصمَت، لا ضعف فيه، ولا ثغرات، ولا يقبل الإزاحة، أو السحب والطَرْق، ومنه الصمود في المعركة والعذاب، بمعنى التحمّل، ومنه الصمديّة كمصدر صناعي بمعنى استحالة قيام من يماثله معه في الحيز نفسه. إنه الامتلاء الكامل، وسد كل الفجوات والصدوع المحتمَلة، البناء الكامل، الذي لا يمكننا أن ندخله؛ لأنه بلا جوف، وبالتالي بلا داخل. ما لا داخل له – منطقيًا – لا خارج له؛ لا معنى لخارج بلا داخل. هذا مثال العمل الفني الكامل، والفنان الكامل، الذي يحيل دائمًا إلى نفسه؛ وقد كانت موسيقى بيتهوفن فعلًا هكذا، كما أجرؤ على القول؛ وذلك للأسباب التالية.

كان الأعقد بنائيًا بإطلاق | تحويل النموذج

ليست صفة التعقيد في حد ذاتها قيمةً مضافة للعمل. التعقيد في الحقيقة سهل، مجرد إضافات متناغمة مع الأصول اللحنية الجارية. كلنا يستطيع إنتاج أعقد عمل ممكن في الفن، كل ما علينا أن نزخرف كل شيء، وأن نحشد كل الآلات، والهارمونيات، وأن ننتقل بين كل الأوكتافات. لكننا نقول بنائيًا، أي بحيث يمارس هذا التعقيد دورًا جوهريًا، لا غنى عنه، في تطوير المنتَج النهائي، بحيث لا يكتمل التصور بمنأى عن متابعة التطور. انظر مثلًا تعقيد الجسم البشري، وكيف وصل كل عضو وجهاز فيه، عبر مراحل طويلة جدًا من التطور، إلى ما هو عليه، من الجلد والجهاز الحركي والهيكلي، إلى الأجهزة الداخلية كالجهاز الهضمي والعصبي والدوري … إلخ. تخيل الفارق لو كان نصف هذه الأعضاء مثلًا بلا فائدة جوهرية للقيام بالوظائف الحيوية، أو لو كان “مضافًا” فجأة، دون تطور. في الحالة الأولى (حالة الأعضاء غير الجوهرية) نجد نموذج باخ، أما في الحالة الثانية (حالة الإضافات الفجائية غير المتطورة تدريجيًا) فنحن أمام نموذج موتسارت. بل إننا سنجد أن باخ لم يطوِّر فقط ما لا حاجة به إليه، بل لم يطوره بما يكفي أصلًا ليكون عضوًا كامل التكوين في العمل.

قلنا في التقدمة إن باخ في حقيقة الأمر ليس معقدًا إلا من جهة الزخرف، فإذا استثنينا من التحليل كل زخارف العمل، والألوان الهارمونية، واستبقينا الألحان الأساسية والبناء العام، لوجدناه أبسط بكثير. هذه في حد ذاتها نقطة بالغة الأهمية في حسم أمر مقارنته مع بيتهوفن بشكل عام. سنتناول مثالين لباخ، أحدهما – للوهلة الأولى – آية في التعقيد والتزويق، والثاني أخفّ وأبسط، لنحيط بإمكانات بناء باخ على أقصى طرفيها. 

الأول هو التوكاتا والفوجة الشهيرة من مقام ري الصغير مصنف ٥٦٥. لنحاول معًا تبسيط العمل بالطريقة سالفة الذكر، أي إزالة كل تلك التلوينات الهارمونية – المعتمدة على عزف نغمات أخرى بالتزامن مع نغمات اللحن الأصلية – بهذه الطريقة سيتغير العمل، ربما يقل جمالًا، لكننا سنلاحظ ملاحظة مهمة: يمكن عزف الألحان نفسها، وطريقة تفاعلها وإنمائها، بجهد أقل كثيرًا من الجهد الذي يتطلبه العمل الأصلي. صحيح أن العمل الأصلي يعتمد على هذه الزخارف، لكننا نفعل هذا لأغراض التحليل فقط بهدف الكشف عن هيكل العمل. إذا استطعنا ذلك، وبرغمه ظللنا نجد العمل نفسه، والألحان نفسها، والإنماءات ذاتها، كما هي، فإن هذا دال على أن كل تلك الزخارف إضافات غير لحنية، وغير أساسية، ولا هدف لها سوى إشباع الذوق الباروكي الزخرفي، وكذلك السير على تقاليد التأليف الباروكية الصميمة. يمكن استيضاح ذلك بصريًا في هذا الفيديو. سنجد أن دور اليد اليسرى طوال العمل ينقسم إلى مهمتين: الأولى تكرار دور اليد اليمنى لإضفاء المزيد من الهارمونية، بمعنى أنك تعزف اللحن الواحد مرتين في وقت واحد بكلتا اليدين. أما المهمة الثانية فهي المصاحبة الإيقاعية، وهو أسلوب متبع ومعروف في مرحلتي الباروك والكلاسيك، أقرب إلى دور الآلات الإيقاعية في العزف الشرقي. أما المهمة الأولى فهي تكرارية كما قلنا، حيث يمكنك عزف اللحن مرة واحدة بيد واحدة دون أن يختلف في الهوية الأساسية، ستظل مستطيعًا التعرف عليه بوضوح، وأما المهمة الثانية فهي كما قلنا أيضًا إيقاعية يمكن الاستغناء عنها، لأن المستمع ليس في حاجة إلى النبر الإيقاعي، بل يحتاج إليه العازف أصلًا لضبط زمن العزف. كل ما يمكن الاستغناء عنه دون إضرار باللحن وإنماءاته هو ما يصنع فراغًا ممكنًا في العمل، لدرجة التساؤل ربما: إذا كان من الممكن التعبير عن العاطفة المطلوبة ببساطة، فلمَ كل هذا التعقيد؟ وهو السؤال الذي وقف أمامه الكلاسيكيون كما سنرى.

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا

المزيد من معازف