موسيقى المغاربة | تعليمات في الجذبة والشجن

الملفات - كتابة: أيوب المزين - ٢٠١٧/٠٩/٢١
موسيقى المغاربة | تعليمات في الجذبة والشجن
تحميل...

تعود علاقتي بموسيقى المغرب الأقصى، موسيقى البلد الذي أنتمي إليه جماليًا وسياسيًا، إلى واحدة من أعتق ذكريات طفولتي في فاس، حاضرة الغربِ الإسلامي الأهم لقرون ممتدة، حيث ولدت وترعرعت. حدث ذلك بداية تسعينيات القرن الماضي، عندما رافقت عمّة إلى ليلة صوفية بإحدى البيوت القديمة. كان المكان ضاجًا بالحضور والحُضّار ، وكانت المجموعة العيساوية  بعازفيها وآلاتها وبخورها تتوسط الفِناء، فيما كان المتفرجون من الرجال ملتئمين داخل الغرفة اليسرى من المدخل، وكنت رفقة النساء في الغرفة المقابلة. أتذكر من تلك السهرة ارتفاع صوت النفير وتوالي القرع على الطبلة وسقوط امرأة بعد رقص جنوني متواصل. بقيت أقلّد ما وقع ليلتها، عبر تحريك رأسي ونقر الطاولة بسبّابتيّ وأنا أردّد: “عيساوة، عيساوة…” حتى صرت مع الوقت “العيساوي الصغير”. كنت أحاول في الحقيقة تقليد أمرٍ أفزعني، أحارب الخوف بمحاكاته، كما كان يفعل البشر القدامى وهم يحاكون أصوات الحيوانات ويتلبسون في جلودها. خوف جعلني أتفادى مواكبة الموسم السنوي للمولى إدريس الثاني  متحاشيًا سماع الإيقاعات المربكة ورؤية مشاهد تدافع الحشود وهي تعبر حي الطالعة الصغرى باتجاه الضريح الإدريسي. كنت أتخيل الأضحيات المقتادة للذبح من ثور وجمل، هائجة تدهس إخوتي وأهلي وأصحابي. كان ذلك مرعبًا ومغريًا في آن.

أثناء فترة المراهقة، اعتبرت هذا النوع من الموسيقى أحد مظاهر “التخلف والهمجية”، لأسباب تربوية في البداية، بحكم الانتماء لعائلة سنية متقلبة الموقف من مظاهر الإسلام الشعبي؛ ولدواع ذوقية لاحقًا، حملتني على تفضيل الطرب العصري، المغربي والمشرقي، والأغنية الفرنسية والراي، ثم الموسيقى الغربية، على فنٍ آتٍ من القرون الوسطى وممتد بغرابة إلى الراهنية الجمالية والاجتماعية والسياسية للمغاربة، فنٌ ظلَّ بالنسبة لعدد من أبناء جيلنا مرادفًا لممالك الشياطين الحافلة بالخرافات السحرية التي تحالف كل من العالم الشريف الإدريسي والملك الصقلي روجي الثاني على هدم أوهامها من خلال بحثِ جغرافي وخرائطي انتهى بتأليف كتاب الشريف الإدريسي الشهير “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”.

https://www.youtube.com/watch?v=sq2Xr4Yfv20

إنّ محاولة تقديم طوبوغرافيا الموسيقى العيساوية بعيدًا عن أي صيغة من الاستشراق، غربية كانت أم شرقية، لا تتحقق إلا بالدخول إلى جوف الشعب الذي نبعت منه تلك الأهازيج والإيقاعات، عبر الولوج إلى تاريخه واستقراء لغاته المحكية والمزمّمة والنظر في أحوال حزنه وفرحه، أي من خلال التطرق للمخيال وأساطيره، والمنقولات وتدويناتها، والسلطة وتلويناتها، وانتهاءً بنقد بعض مقولات الأدب الكولونيالي والعلوم الحديثة  التي جعلت من الاشتغال على هذا الموضوع ساحة تجريبية لمناهج سعت نحو الحط من موروث موسيقي عريق إلى مادة متحفية ، لاعتبارات سلطوية ومذهبية وإيديولوجية مختلفة، بلغت أوجها مع الحقبة الاستعمارية ولم تنته بزوالها. كيف ظهرت الموسيقى العيساوية وتغلغلت في جذور أرض تعج بالأشكال الموسيقية الضاربة في القِدم؟ إلى أي مدى يمكننا الحديث عن موسيقاهم خارج الطائفة أو عن الطائفة دونهم؟ وهل يكون الشجن الإبداعي الكامن فيها طوق نجاة المغاربة أم بالوعة غرقهم؟

ديونيزية الشعب وموسيقاه

تنتمي موسيقى عيساوة في نشأتها وتطورها إلى سياقٍ تاريخي يطبعه امتداد التصوف في المغرب الأقصى والأندلس، وتحوله من ظاهرة ثقافية سائدة في أوساط الفقهاء مع مطلع القرن الحادي عشر إلى بنية اجتماعية وسياسية حين مجيء الحماية الفرنسية بداية القرن العشرين. لقد انتظم التصوف داخل تيارات تكاد تكون قبلية على عهد الدولة المرابطية، إذا نحن احتكمنا إلى الطرق الستة التي ذكرها ابن قنفذ القسنطيني (١٤٠٨-١٣٣٩) في كتابه .

عندما يضع نيتشه طائفة عيساوة وسط مقارنته بين الأبيقورية والرواقية، فإنه لا يستعين بها للسخرية من الرواقيين ومذهبهم فحسب، وإنما يرجعها إلى قلب ذلك التماهي الإغريقي مع الطبيعة في صوره الفظة والمضنية. يستعير نيتشه إذًا الممارسات العيساوية ليظهر الجانب المنبوذ لدى الرواقيين. فهل يمكن اعتبار العيساويين رواقيين؟ وإذا جاز الاعتبار، فأي معنى يتحقق؟ لعلّ نيتشه كان قد اطلع على أخبار عيساوة من إحدى المؤلفات الاستعمارية الرائجة آنذاك، فالجزائر  كانت قد أصبحت فرنسية ٥٢ سنة قبل صدور مؤلفه. إن مقارنته مع كونها مجرد استعارة لحال بعض العيساويين، الذين يبلعون فعلاً الأحجار والدود وشظايا الزجاج والعقارب ويلاعبون الأفاعي القاتلة، فهي تجعل منهم رواقيين متطرفين. بيد أن تطرفهم هذا هو “جنون ربّاني”، يؤول بهم إلى كل ما يريدون وما يكرهون؛ جنون يذكرنا بشياطين سقراط  وقرابين ديونيزوس ، إله يستعين أتباعه مثل بعض مريدي عيساوة بالأضحيات وأكل اللحم النيّئ على إيقاعات الموسيقى لتحقيق الجذبة، حتى أن هناك من ذهب إلى الاستدلال على ممارسة تقطيع وافتراس لحم البشر أو الحيوانات نيئًا في اليونان القديمة بـ”نساء-فهود” تنتمين لعيساوة، تشبهن حاملات جلد الفهد (Paradalile أو Nébride) على المزهريات اليونانية، واللائي تلتهمن أطفالهن في مشهد لزج من سيلان الحليب والدم والماء والعسل .

يكتب الخطيبي في النقد المزدوج واصفًا تلك الديونيزية التي أشرنا إليها:

“المغرب القديم الذي لا أبجدية له، يدخل في جسم الشعب. في جوف الطغيان التاريخي. وهو دخول مجيد أحيانًا: في الأدب العربي (الدنيوي والروحي) في الوشم والزخرفة، في بهاء الغناء والرقص. ذلك مشهد يكشف عن ديونيزية مغربية تنحدر، دفعتها النشوى نحو المحيط” .

ينتمي المغاربة إذًا، بأبدانهم ورموزهم الاعتقادية ومنقولاتهم الشفهية، أي في مللهم وأدبياتهم وموسيقاهم وبقية أشكالهم التعبيرية الأخرى، إلى تاريخ قديم غير مكتوب بالجملة، لكنه تاريخ محسوس تناقلته الجماعات عبر التدوين على التربة والجسد والأواني الفخارية والآلات الموسيقية وخرائط الشمال الإفريقي الممزق بالأوبئة والحروب. إنه عنصر جارف تحمله الثقافة المغربية، بما فيها تلك الأكثر احتكامًا إلى تدين محافظ أو عقلانية مسرفة؛ وعلى نحو غرائبي، تغذيه وتجدده، بل تؤججه وتفتحه على صراع القوى المتناحرة على السلطة، بين مُلك الأرض وملكوت السماء.

لغز الطوائف

يمكن اعتبار الشيخ محمد بن سليمان الجزولي ، سليل الطريقة الشاذلية وصاحب كتاب دلائل الخيرات، إحدى العلامات الفارقة في تاريخ الطرق الصوفية في الغرب الإسلامي، فقد قام بتوحيد الطوائف على تلاوة أوراد وأحزاب وصلوات لشيخه وللمولى عبد السلام بن مشيش، في وقتٍ لم تكن الثقافة السمعية للمتصوفة تتجاوز الذكر والإنشاد، ومع ذلك تبقى كل طريقة مختصة بأورادها وأذكارها، وقد تلتقي حسب قرب شيوخها بعضهم من بعض. إلا أنّ الطائفة العيساوية، مع نهلها من الرصيد الصوفي الغزير، اختارت لنفسها نهجًا مختلفًا نتطرق له في ما يلي.

حوالي العام ١٤٦٧م، ولد أبو عبد الله محمد بن عيسى، شيخ الطريقة العيساوية المعروف بـ الشيخ الكامل، والملقّب بـ الكبريت الأحمر وبركة أهل السماء والأرض، وصارت طريقته إحدى أكثر الطرق انتشارًا وإثارة للجدل الفكري والسياسي والجمالي خلال القرون اللاحقة. يمكننا أن نرصد هنا، بخصوص ذلك الجدل، ما ورد من رأي المالكية في المغرب بأن “ما وقع لبعض المساكين من السماع بهذه الآلات محمول على أنهم أصحاب حال. وصاحب الحال له حكم المجنون في جميع الحالات، ويُسلّم له ولا يقتدى به” ، وكذلك موقف السلطان سليمان العلوي (١٨٨٢-١٧٦٠) في رسالته “آلات الموسيقى” التي حذّر فيها من “التقرب إلى الله بالغناء والشطح”، واعتبر كلًا من عيساوة وجيلالة من “أولياء الشيطان” . مع أن موقف السلطان لم يبلغ مرتبة الفتوى، فإنه كان مشحونًا بنبرة النهي والتحريض، وأخذ شكل تكتيك جذري، سياسي وديني في آن. إنه ذات الموقف الملتبس والمتوجس الذي تبناه الفرنسيون منذ قدومهم إلى شمال إفريقيا، سواء في الجزائر أو في المغرب، أتعلّق الأمر بنهر رموز عيساوة ومنع طقوسهم أم بتبخيس موسيقاهم: منعت ولاية وهران عام ١٩٠٧، على سبيل المثال، أي تظاهرة عيساوية في الأماكن العامة نظرًا لـ”طابعها الغليظ وطبيعتها المخلة بالأمن العام” . يكتب موريس لو غلاي عن الرقص والموسيقى المغربية:

“لا أعرف ما هو أكثر إزعاجًا وأوضع فنيًا من هذا الاستعراض، وإقبال المغاربة عامة عليه هو في نظري المحدد عينه للهوة التي تفصل أفكارنا عن أفكارهم” ، وقعّدوا لها في المجالين العام والخاص بضوابط شعرية ولحنية وكوريجرافية مفصلة. هكذا خلقوا للموسيقى صيغها المتفردة لتصبح عقيدة طقوسية للطائفة، لا تستقيم الجذبة فعليًا بغيرها، ولا تتحقق النشوة في غيابها.

تختلف الممارسات العيساوية حسب السياقات والمناسبات، وحسب المناطق الجغرافية، لكنها تنضبط لآداب صارمة وفقًا للمكان (بيت خاص، زاوية محلية، الزاوية الأم) والزمان (سائر الأيام، مواسم دينية، المولد النبوي)، وتحتكم لنظام موسيقي صارم يتخلله الارتجال. سنكتفي في هذا المقام برصد المراحل الرئيسية لليلة العيساوية، أي الحدث المنظم داخل البيوت بطلب من أصحابها لاستجلاب البركة و/أو للـعلاج. لم تكن الليلة العيساوية طقسًا شائعًا لدى العيساويين، ولم يثبت عن شيخ الطريقة ولا تلامذته ممارستها، ويرجعها عددٌ من المقدمين إلى باعث خاص للمدعو سيدي عبد الرحمن الشنطري أحد مريدي الطائفة أو إلى تأثرها بطقوس سيدي علي بن حمدوش . يمكننا أن نسمع في تلك اللحظات أبياتًا زجلية منها:

“الطالبين وْمَا طلبوا / الراغبين وْمَا رغبوا

الواقفين بباب الله / سيادنا رجال الله

الزايرين إذا زاروا / قلوبهم يسلاوْ بالله”.

يقوم المقدم بإيقاد شمعة متوجهًا إلى المتفرجين بالقول: “اللي مريض الله يشافيه واللي قاصد غرض يقضيه”. فيبدأ الناس باقتناء الشمع ويطرش المقدم البندير تمهيدًا لولوج عتبة الباب، ثم الاستقرار بعدها في البهو بين أهل البيت، وسط زغاريد النساء وصلاة الحاضرين على النبي.

تنطلق الليلة بالذّكر، وهي عملية تمهيدية ترتكز على التوحيد والشهادتين لتحقيق السلم في المكان، وتكون بقراءة أوراد وابتهالات في مقدمتها حزب سبحان الدايم، أو ما يمكن تسميته بـالصلاة الشافعية ” التي تطورت صيغتها ، وكذلك إنشاد قصائد منها الحُرم والدرقاوية والتهضيرة، بالإضافة إلى التواتية . تتميز هذه المرحلة بإيقاعات سريعة، خاصة في التهضيرة، وتستهدف إنهاك قوى الشر لدى الجاذبين قبيل العبور إلى مرحلة الملوك. قد تستمر مرحلة الذكر زهاء الساعتين أو يزيد، حسب أساليب المقدمين وتفاعل الحضور معهم.

أمّا الملوك، فمطلعها حدون والجيلالية، ويشكلان معًا باب الجيلالية ، البوابة الأولى للدخول إلى الملوك، وقد يسبقهما على سبيل الاستهلال إنشاد قصائد بالعامية المغربية مدحًا في الرسول أو استغاثةً بالأولياء واستعانةً بأولادهم وأحفادهم، كتهيئة لمواجهة قوى الشر الكامنة في فضاء حدث الليلة، وهي قصائد تشبه الملحون في نظمه، ومن الدارسين من افترض وجود علاقة أبوة بين فن الملحون والذِكر العيساوي .

“مولانا الله، الله آ مولانا،

مولانا الله، ربي فيك رجايا.

باسم الله بديت قولي

ونثني بصلايا، على من جا بالآية.

إذا غاب الشيخ را ولادو هنايا

إذا غاب الشيخ ها ولاد معايا.

أيا دار الجود يا دار العناية،

يا دار الجود

وإذا غاب الشيخ راه ولادو…”

هنا، بعد الاستغاثة بالله والثناء على نبيه وتقديم الولاء لأولاد شيخ الطريقة وأحفاده، تدخل الغيطة والطبلة لتقسم ظهر الدعاء والحكاية الملتبسة وتنسخ بسردها الخاص مرويات المؤرخين والسلالات الغالبة. يُجمع الباحثون ومقدمو عيساوة أنفسهم على أن لفظ المْلُوكْ يعني الجان في اصطلاح الممارسات الصوفية والشامانية المغربية، خاصةً لدى كناوة. فالـ مسكون هو الذي به مس، وهو صاحب الحال الذي تحركه الموسيقى. في أحيان أخرى، على عكس المعهود، قد يستجيب العيساويون لدعوة امرأة أو رجل مسكون لإقامة ليلة تسقط فيها مرحلة الذّكر كليًا، أي تمّحي منها ركيزة التوحيد والشهادة، ويكتفى فيها بالحناء والجذب والصياح. يسمى هذا الباب لدى عيساوة باب كناوة، فهو يتحقق من داخل منظومة شامانية ذات جذور إفريقية غير إسلامية. مع ذلك، تبقى الملوك لدى العيساويين في عموم الحالات مرحلة قبل أي شيء، مرحلة في الجذبة قبل كونها مراتب شيطانية. هل الملوك هنا هم العفاريت أم أنهم السلاطين أنفسهم؟ وماذا يترتب على تأويل نعكس فيه الأمر ونزعم أن “المْلُوكْ” هم الحُكّام؟ لم يكن لسلاطين المغرب، خلافًا لملوك فرنسا وإسبانيا وإنجلترا ، ولكن من حيث دورها الموسيقي: ينقسم العازفون إلى حاشية (أنثى) وزوّاق (ذكر) يشتبكون في كل مراحل الليلة العيساوية عزفًا وإيقاعًا، ويختص الزواق / الذكر بلعب دور المرتجل القائم بتزويق اللحن، أما الحاشية / الأنثى فتضبط الإيقاع الثابت وتتأقلم مع تنويعات الزواق.

وأما الحضرة فهي مرحلة تجاوز القداسة والدناسة، السياسية والشيطانية، دون التخلي عن إيروتيكية تتجلى في رقصات تقلد الحيوانات منها رقصة الأسُود، يتساوى فيها الذكور والإناث، إن لم نقل إن صيغة التمتع الجنسية الأنثوية هي الغالبة فيها، وذلك قبل الاستقرار في سكينة الرحمن (שכינה) . تتراوح طقوس الحضرة بين شكلين للعزف والإنشاد والرقص هما رباني والمجرد، يتناوبان تقديمًا وتأخيرًا على تغيير خاصيات السمع والحركة من واقعية مفرطة في الجذب إلى تجريد روحي يدعو الحواس إلى الشروع في مغادرة الجذبة والشجن نحو السكون والانشراح. إنها لحظة وجد الفناء في التوحيد، بلغة المتصوفة. عندما تنتهي الحضرة، وتنحدر الليلة نحو نهايتها، يعزف العيساويون وينشدون قصيدة الزميتة على إيقاع “رباني”، وهي قصيدة يعتقد أنها نُظمت منتصف القرن العشرين من طرف الشاعر إبراهيم الدكالي الذي ألّف أزيد من مئة قصيدة خاصة بالطائفة العيساوية. والزميتة أيضًا أكلة شعبية يتم توزيعها عند نهاية الحضرة اقتسامًا للبركة وتأكيدًا على زهد المريدين وفقرهم إلى الله.

يُعدّ آلكسيس شوتان (١٩٧٥-١٨٩١)، أحد المستعربين والإثنوموسيقيين الأجانب المشاركين في مؤتمر الموسيقى العربية الأول المنعقد بالقاهرة عام ١٩٣٢، أهم من اشتغل على الموسيقى في المغرب بشكلٍ عام، وعلى المنظومة الموسيقية العيساوية على وجهٍ خاص. لكن، وعلى الرغم من جدية بحثه مقارنةً بآراء لو غلاي وغيره، تبقى قراءته لموسيقى عيساوة مليئة بالمغالطات: كأن يخلط بين حزب الدايم المنتمي إلى مرحلة الذكر، ورباني المنتمي إلى مرحلة الحضرة، معتبرًا أن حزب الدايم هو الذكر الديني الوحيد لدى عيساوة الذي يرافقه العزف!  بمراكش إلى مرأب للسيارات، ساحة اعتبرها رجال الحركة الوطنية قبل الاستقلال كـ”واحدة من الواجهات التي استخدمها المستعمر لتقديم الإشارات الملموسة على تخلف الشعب المغربي” ، ودمجتها مع بقية الأنماط الشعبية / التقليدية في الفلكلور الوطني، كما دفعت إلى تنظيم الفرق والزوايا عبر إخضاعها لوزاراتٍ حكومية، وتقديم هبات مالية لقيادها بغية توظيفها سياسيًا. بيد أن عددًا من الفرق الموسيقية المنتظمة تحت لواء الطائفة استمرّت في مزاولة أنشطتها المتوارثة، غير المهجنة، رغم اشتغالها تحت وصاية وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، خاصةً في الغرب المغربي. ويمكننا أن نذكر من بين المقدمين المعاصرين المنتمين لطائفة فاس، مقدم المقدمين العيساويين الحاج عز الدين البطاحي والحاج سعيد الجيسي (رفقة ابنيه) اللذين حافظا على الولاء الزاوية الأم، من جهته اختار الحاج سعيد برادة المزاوجة بين إرضاء الطائفة ولبرلة الترويج لفرقته بإحياء الأعراس وحفلات الحناء والتعاون مع مؤسسات ثقافية عالمية، منها معهد العالم العربي بباريس الذي أنتج له ألبوم عيساوة فاس.

منتصف التسعينات، سطع نجم محمد العسري، أحد تلاميذ الراحل عبد العزيز العمراني، الملقب بالكنار. قام العسري بنقلٍ تدريجي للموسيقى العيساوية من الملحون إلى ريبرتوار الأغنية الشعبية العصرية، فأسس أوركسترا العسري التي أشاعت القصائد العيساوية خاصة بين الشباب. ومع انحدار نجمه نهاية العشرية الأولى من الألفية الثالثة، آلت الموضة في فاس ومكناس من جديد إلى الاستنجاد بالطائفة والزاوية الأم، في حلقة لامتناهية من ذهاب وإياب مشتت بين التراث والحداثة.

يكتب الخطيبي:

“المغرب البديع هذا آخذ في الزوال، تغطي اللامبالاة ذاكرته. إننا بمعنى ما، نتابع التهديم الذي بدأه الاستعمار وعلم الأجناس. وليكن قولنا مفهومًا: نحن لا ندعو إلى الحنين الساذج للأصل القديم، وإنما ندعو إلى مغرب جذري تخلص من القانون اللاهوتي ومن سلطة العلموية. إنّ على المغرب كأفق للفكر وكينبوع للفن أن يكون في مستوى جذرية الوجود هذه. أي أن عليه أن يتجه نحو الزمن الجمع لمغرب لا ينسى. والذي لا يمكن أن يحاصره قانون البشر ولا السور الميتافيزقي” 

إن واحدة من التحديات الأساسية المطروحة اليوم على الطائفة العيساوية، وعلى سائر الطوائف الصوفية، بل على المجتمع والدولة في هذا “المغرب البديع”، هي إعادة النظر في علاقته المركبة بالأدبيات الدينية، التقليدية والمعاصرة، وبالنظريات الغربية ونقدها من منظور محلي يأخذ بعين الاعتبار المتون والفنون ونماذج التربية والحكم الوطنية، كيلا نضيع كمغاربة في ارتدادات الفعل الأيديولوجي والسياسي التي تستغيث تارة بالنموذج الحضاري الغربي أو ترتد إلى صيغ بالية ومتهافتة من فهم التراث تارة أخرى، قد يكون ظهور الطريقة الكركرية، في السنتين الأخيرتين، دليلًا على تكريسها. لقد قامت هذه الطائفة الناشئة بتقديم الولاء الروحي لعددٍ من الزوايا التقليدية، بعدما أقدم بعض المنتمين إليها من “الفقراء” على زيارة كل من ضريح مولاي عبد السلام بن مشيش، وضريح سيدي الهادي بن عيسى وضريح مولاي العربي الدرقاوي، كما خرجوا رسميًا للمشاركة في احتفالات المولد النبوي وشرعوا في التوسع شرقًا نحو الجزائر، متمسكين بالأشكال التقليدية للتصوف الشعبي من رقص وإنشاد، مضيفين إلى ذلك حصصًا موسيقية هي أقرب ما تكون إلى موسيقى العصر الجديد. هل سينتهي بنا هذا الشجن المستحدث إلى الغرق في المحيط؟

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا

المزيد من معازف