بجاه الله يا حبّ اسمعني | الهادي حبوبة ونحت المزود

مقالات - كتابة: أحمد نظيف - ٢٠٢٤/٠٢/١٤
بجاه الله يا حبّ اسمعني | الهادي حبوبة ونحت المزود
تحميل...

كانت على وجهه مشاعر الخوف لا تخطئها عين. صعد شاب عشريني بشعر منسدل وملامح حائرةٍ تبحث عن شيءٍ ما إلى خشبة مرتفعة قليلًا، في ردهة فندق النيل هيلتون بالقاهرة، معانقًا دُفًا كبيرًا؛ ثم انطلق في وصلة جنونية لا تتوقف من الضرب على الدف وتدويره على طرف إبهامه كاللولب. كان يقذف به فجأةً إلى أعلى ثم يلتقطه بطرف إصبع ويعاود وصلة الإيقاع، فيما كانت أنظار الجمهور ترتفع وتسقط متابعةً حركة الدفّ يتلوى بين الأصابع. في الصف الأول جلست أم كلثوم بكامل وقارها، إلا أن حركة الشاب مع دفه العجيب حررتها من سجن الوقار، فأخذت تتفاعل بالضحك والتلويح بالأيدي. حين بلغت الوصلة خاتمتها، اتكأت قليلًا نحو صالح المهدي، مؤسس الأوركسترا السيمفوني التونسي، ملتمسةً منه أن يعيد الشاب، الذي عرفه المهدي بأنه يدعى الهادي حبوبة، وصلته. انتفض المهدي من كرسيه، كالذي يتخبطه الشيطان من المسّ، وقبل أن يختفي حبّوبة وراء الستارة همزه هامسًا: “أم كلثوم تريدك أن تُعيد.”

تلعثم الشاب قليلًا فأعرض عن الردّ، وحين أراد أن يلتقط دفه مرة أخرى فقد توازنه من شدة الرهبةٍ، وعند السنتيمتر الأخير، استعاد التوازن دفعةً واحدةً فحوّل اقترابه من الأرض إلى لقطة فنية راقصة، طربت لها القاعة فعاد إليه الصدى تصفيقًا.

مرت أكثر من خمسة عقود على تلك الرحلة، تحول خلالها الشاب العشريني إلى أسطورة، إلى البلدوزر التي فتحت الطريق أمام أجيال من مغني المزود. ليس ذلك فقط، بل الرجل الذي أسس المزود في شكله الذي نعرفه اليوم، حين نحته من خامةٍ تشكلت على مدى عقود في هوامش تونس المنسية، ومسح عنه غبار الاحتقار الطبقي والسياسي والأخلاقي، متحديًا بذلك سلطات ثلاث: الدولة المتحكمة، والثقافة المهيمنة، والأخلاق السائدة. لكن ذلك التحدي لم يكن في شكل صراع، بل شأنه شأن الماء حين يُسد مجراه فيبحث عن مجرًى آخر.

الشغف داخل السور

حين سئل الهادي حبوبة يومًا عن مساره وكيف يلخصه، قال: “الغرام”. قصة حبّوبة مع المزود قصة شغف مازال متوهجًا كيومه الأول، في مسيرة تزحف نحو عقدها السادس على مهل. الطفل الذي ولد عام ١٩٤٩ لعائلة نازحة من الجنوب التونسي، واكتشف صوته لأول مرة في كُتاب جده داخل أسوار مدينة تونس القديمة، تنبه باكرًا إلى سحر الإيقاع. بين مدرسة نهج دار الجلد وبيتهم الصغير في حي باب سويقة، كان يضرب على صدره مصدرًا أصوات إيقاع، وربما رافقها بغناء كلمات كان يسمعها في حفلات الأعراس الكثيرة التي تقام صيفًا على سطوح المنازل وبين الأزقة والساحات. 

تطور الأمر إلى استعمال علب معجون الطماطم والتلصص على جلسات هواة الغناء الشعبي في باب الأقواس والمركاض وباب سعدون؛ وحين جادت عليه الأقدار بأول هدية عيد بدّد ثمنها في شراء دربوكة. شكل ذلك الانبهار الباكر بعوالم الفن الشعبي والإيقاع على الناحية الأخرى بعدًا منه عن المدرسة، وسط معارضة أبوية. في الوقت نفسه كانت المدينة العتيقة تضم المدرسة الرشيدية، حيث انخرط حبّوبة مبكرًا في الكورال وتعلم بعض قواعد الموسيقى وأصبح جزءًا من المجموعة الصوتية التي ترافق فرقة المدرسة في جولاتها لغناء المالوف.

في البيئة التي ولد وعاش فيها الهادي حبوبة، كان الغناء الشعبي يسمى المزود. لون تشكل على مدى عقود، بدايةً من مطلع القرن العشرين إلى حدود الخمسينات عندما أخذ شكله الذي نعرفه، من روافد متنوعة: المدائح الدينية المتسربة من الزوايا ومراقد الأولياء، والإيقاعات الإفريقية القادمة من رواسب تجارة العبيد القديمة، والأغاني البدوية التي جاءت بها موجات النزوح نحو العاصمة تونس منذ منتصف القرن التاسع عشر.

قام هذا اللون على هيمنة آلة المزود (قربة النفخّ المصنوعة من جلد الماعز)، وكان متفلتًا من كل النواميس، لجهة نوعية كلمات أغانيه التي تحاكي حياة الهوامش الصعبة في المدينة، ولجهة شكل أدائه. في ذلك الوقت لم يكن هناك فنانو مزود بالشكل الاحترافي الذي نعرفه اليوم. كانت جلسات المزود تقام للمتعة، حيث يجتمع هواة الفن على مائدة من الخشب مدورة الشكل، قريبة إلى الأرض وعلى سطحها ما تجود به الأيام والظروف من الطعام والمشروبات الكحولية، وأحيانًا حشيش التكروري (القنّب الهندي). يتصدر الجلسة عازف المزود وبجانبه ضارب الدف وضابط الإيقاع بالدربوكة، ورابع يضرب على الدربوكة ويسمى الوراق. يردد الجميع أغانٍ سائدة يدور أغلبها حول الحب والغربة والأم والحزن والحظ العاثر والاستغاثة بالأولياء الصالحين، وربما تنتهي الجلسة بتبادل اللكمات أو تقاذف الشتائم في أحسن الأحوال.

حينذاك، منتصف ستينيات القرن الماضي، بدأت شهرة الهادي حبوبة تَذيع بوصفه ضابط إيقاع بارع على الدربوكة؛ وقد اشتغل منذ يفاعته مع أسماء كبيرة في المجال، مثل الناصر الحامي والشيخ الخطوي بوعكاز، ورائد الغناء البدوي إسماعيل الحطاب، وعبد الحميد المطماطي، والأخوين حمزة وعزيز التريلياتي. أصبح بعد ذلك عضوًا في فرقة الراقصتين زينة وعزيزة. إلى جانب معارضة الأب البيولوجي، حال أمام شغف حبوبة بالمزود معارضة الأب السياسي للأمة. حينذاك كان المزود شبه ممنوع في الفضاء العام، لاسيما في الإذاعة والتلفزيون وفي النشاطات الثقافية الرسمية. 

لم يكن ذلك الرفض خاضعًا لسبب محدد، لكنه رفض صادر عن أعلى سلطة في البلاد، الرئيس الحبيب بورقيبة. يروي عبد العزيز قاسم، المدير العام الأسبق للإذاعة والتلفزيون في عهد بورقيبة، أن الرئيس كان “يعتبر المزودة آلة سوقية، مع أنه كان يحب صوت الزكرة، رغم حداثيته التي تكره البداوة. لأنها كانت آلة يستعملها المتسولون وتعزف في الأوساط السوقية.” في تفسير آخر لم يأت به غيره، يذهب فنان المزود صالح الفرزيط إلى أن ذلك المنع لم يكن عن كره بل كان بسبب أغنية إرضى علينا يا لُمّيمة التي تتحدث عن حقوق المساجين في منتصف السبعينات، رواية تدحضها حقيقة أن المزود ممنوع قبل ذلك التاريخ.

 كان بورقيبة بوصفه الرئيس المؤسس، مولعًا بتصديق فكرة أنه قد صنع أمة من غبار أفراد، كانوا شتاتًا بين الانتماءات المختلفة؛ وأكثر ولعًا بتربية هؤلاء بوصفه أبًا لهم وللأمة. باكرًا وقبل الاستقلال، كان بورقيبة يرى – من خلال مقالاته وخطبه – أن “التعافي الوطني يعتمد إلى حد كبير على التعافي الأخلاقي للأمة وتجديد العقليات.” مدفوعًا بالفلسفة الوضعية التي أغرم بها منذ سنوات دراسته في باريس مطلع القرن العشرين. 

اعتقد بورقيبة أن “قوة الدولة وحدها هي التي يمكنها ضمان الأمن والرفاهية وإعطاء محتوى حقيقي لمفاهيم التقدم والحضارة”، لذلك قرّ عزمه منذ صعوده السلطة منتصف الخمسينات على صياغة برنامج كامل تسيطر فيه الدولة على المجال والمجتمع، لتعيد تشكيله وفق رؤيته العلمانية والغربية للتقدم والحضارة. من خلال قوة الكلمة، في خطبه التي تذاع على مدار الساعة مسجلة في الراديو والتلفزيون، توهم الزعيم أنه قد دخل “حربًا ضد الغرائز السيئة لإصلاح العقليات” كما يصفها عياض بن عاشور، في دراسته حول بورقيبة والتعافي الأخلاقي

منذ ذلك الوقت شرع الهادي في تعقيم المهنة: وضع لها نظامًا خاصًا، فلا جلوس على الأرض بعد اليوم ولا موائد تضم قوارير البيرة والبوخا، ولا عراك ولا شتائم. يجب أن يكون فنان المزود كغيره من الفنانين له ملابس خاصة وطقوس عمل مميزة وشكل يزاحم به في معمعة سوق الفن. تعاقد النجم الصاعد مع شركة أسطوانات فرنسية وفتح مكتبًا للعمل وصمم ملابسًا خاصة قوامها القمصان الحريرية الملونة ذات الأكمام الفضفاضة، والسراويل السوداء التي تلمع عند انعكاس الضوء عليه فوق المسرح، والأحذية ذات الأنوف الدقيقة والنعال الصلبة. داوم على الجري صباحًا والبروفات مساءً، قاطعًا مع صورة فنان المزود صاحب الوشوم الكثيرة وبطاقة السوابق العدلية المزدحمة بسنوات السجن وجرائم العنف والسكُر في الطريق العام.

ترافق مسعى حبّوبة لتطهير المزود مع تشبث شديد بالمزود نفسه كصوت وآلة. حتى أنه رفض في نهاية السبعينات عرضًا مغريًا من شركة أسطوانات باركلي العالمية لتسجيل أغانيه باستعمال الآلات الغربية وإقصاء قربة النفخّ.

كان لابد لحبّوبة أن يطل على تونس من نافذة باريس كي يجد فيها قبولًا. أدت شهرته في فرنسا وأسطواناته المطبوعة مع شركات فرنسية إلى وصوله نحو بيوت ومنازل الطبقات العليا والشرائح العليا من الطبقة الوسطى في تونس. مخترقًا كل الحواجز السياسية والأخلاقية التي وضعتها السلطة والمجتمع، وجد الشاب الثلاثيني نفسه فجأةً محبوبًا لدى عائلات القلة المهيمنة في البلاد. حيث أقام حفلات خاصةٍ كثيرةٍ في بيوت وزراء ومسؤولين في الحزب الحاكم، والطريف أن من يحضرونها هم الذين يقومون بمنع إذاعة أغانيه في الإذاعة والتلفزيون.  

لم يكن سبب هذا الميل نحو المزودّ في سبعينات القرن العشرين فقط شهرة حبّوبة خارج تونس، بقدر ما كان معبرًا عن تفكك آليات السيطرة التي وضعتها دولة الاستقلال وزعيمها الأوحد. ذهب علي سعيدان، الذي غنى حبّوبة من كلماته رائعته في رثاء الشاعر محمد خذر جديرة بلحن الهادي قلة، في كتابه ملحمة المزود، إلى أنه “منذ بداية السبعينيات، حدث تطور مهم في الاهتمام بالثقافة بشكل عام وبالثقافة الشعبية لدى بعض الطلاب والشباب أو الباحثين المتعاطفين مع أفكار التقدم واليسار. زعزعت أفكار اليسار الجديد أفق البحث والاهتمام وأطلقت ما أصبح يعرف بالعودة إلى الذات، بداية من خلال الاهتمام السوسيولوجي والأنثروبولوجي، ثم من خلال دوافع سياسية وفكرية تولدت من دوافع طبقية، حين بدأت قطاعات واسعة من سكان المناطق الشعبية والريفية في الوصول إلى درجات علمية جامعية، ما شكل نوع من الصحوة والبحث عن عناصر الهوية في العمارة والثقافة والتقاليد، في محاولة للإجابة عن سؤال: من نحن؟” ، حين انتصر في ترجمة outsider لكلمة خارجي، بدلًا من اللا منتمي الذي أثبتها منير بعلبكي في ترجمة رواية كولن ولسن، التي حملت الكلمة عنوانًا. عندما أقلب سيرة الهادي حبوبة لأبحث لها عن عنوان أهتف في سري أول الخوارج. لكنه خروج ناعم لينّ، لين الماء باحثًا عن مسارب دون ضجيج الصراع. حتى لو كان جبنًا، هو جُبن خلّاق.

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا

المزيد من معازف